
خليل علي حيدر
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي صدرت سلسلة من الكتب للأستاذ خليل علي حيدر، تناولت بشكل مباشر مجموعة من القضايا المهمة حول الحركة الدينية، أو ما عُرف بـ «الصحوة الدينية»، وكان النصيب الأكبر من محتواها ينصب على جماعة الإخوان المسلمين.
هذه الكتب، والتي من أبرزها: نقد الصحوة الدينية (1986)، الصحوة الدينية وهموم الوطن العربي (1987)، الإخوان المسلمون سجل الأحداث (1989)، تيارات الصحوة الدينية (1987)، الحركة الدينية حوار من الداخل (1987)، وأضواء على مذكرات حسن البنا (1989)، شكلت مدخلاً أساسياً لفهم واقع هذه الحركة انطلاقاً من نشأتها في محاولة لاستشراف مستقبلها.
وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على إصدارها، فإنها تظل ذات أهمية كبيرة لكل من يريد أن يتعامل مع هذه الحركة ويدرك حقيقة برامجها ورؤاها نحو المجتمع.
تتميَّز كتابات خليل علي حيدر بمناقشاته الفكرية الواسعة مع دعاة ومنظري الحركة الدينية بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، وردوده عليهم، وتفنيد أطروحاتهم التي دائماً ما تذهب نحو محاولاتهم لفرض سيطرتهم على مكونات المجتمع وتوجيهه ضمن رؤى محددة تخدم تطلعات أقطاب الحركة الدينية.
واليوم، مع انتشار حركة الربيع العربي، بعناصرها الشبابية في مختلف أقطار العالم العربي، التي رفضت الواقع المؤلم الذي عايشته المجتمعات العربية في ظل أنظمة مستبّدة، واختطاف الجماعات الدينية للحراك الشبابي ومحاولته السيطرة على نجاحاته، إلا أن الوعي الجماهيري استطاع وضع حد لهذه المحاولات، فبات من الضروري أن يكون هناك نوع من المراجعات، وهو الأمر الذي يمكن الرجوع إليه من خلال كتابات خليل علي حيدر بالذات.
تسميات مقدسة
ينطلق حيدر من أمر في غاية الأهمية عند نقد وتحليل الحركة الدينية ودوافعها وإفرازاتها: إن «من الظلم للحقيقة وللحركة الدينية أن تكون أي حركة بهذه القوة والانتشار بين الجماهير، وأن تكون مضطرة لأن تتعامل كحركة سياسية، فكرية، عقائدية، بل واجتماعية، واقتصادية، مع هذه الكتل البشرية في أكثر من دولة إسلامية.. ثم نتوقع منها العصمة والكمال» ثم يتساءل في الإطار ذاته: «لكن ما العمل معهم وهم يسمون أنفسهم حزب الله وجند الرحمن وشباب محمد، وأنصار الحق وغيرها من التسميات المقدسة؟، وما نفعل والحركات الدينية وأحزابها في تصارع مستميت في ما بينها حول الفوز بلقب الجماعة المسلمة، والفرقة الناجية وربما أهل الكساء؟».
ويؤكد حيدر في السياق ذاته «أن شباب أحزاب وجماعات الإسلاميين يتعاملون مع من هو «خارجهم» من سابع سماء، ويعتبرونهم من الخِراف الضالة وأنصار الجاهلية المعاصرة، وهم يطالبون أعضاء أحزابهم بالولاء المطلق للحزب، وبأن يكون كالخرقة أو الميت في يد الغاسل.. وهم يرفضون أي أخذ وعطاء على الصعيد الفكري والسياسي، لئلا تتلوث أيديهم أو عقولهم بشيء من دنس الدنيا وشرك الجاهلية»، كما يرون مناهجهم الفكرية والسياسية والكتب والبرامج الحزبية المقررة فوق أي نقد وبعيدة عن أي شبهات.
عجز سياسي
ويذهب حيدر بالتأكيد أن إحدى السمات الأساسية للحركة الدينية لاتزال عبارة عن «ردة فعل»، على الرغم من العدد الكبير من الكتب والمؤلفات، انطلاقاً من حسن البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي وفتحي يكن.. وغيرهم، فهي «لاتزال عاجزة عن بلورة نظرية سياسية كاملة تشرح سُبل الإعداد للتغيير وممارسة التغيير، ثم ضمانات نجاح البديل الجديد، إنها لاتزال في إطار الرد على الشبهات.. مع محاولة محدودة وناقصة في طرح الدليل الواقعي، وهو ما يعني من وجهة نظره أن الحركات الدينية تمتلك قوة «هدم» جبارة، لكنها فاشلة في بناء واقع جديد.
ولا يتوقف حيدر عند هذا الأمر، بل ذهب إلى الإشارة إلى أن الحركات الدينية كانت «معادية بصلابة للغرب، فإذا بها في الواقع إحدى أوراق الغرب في لعبة معاداة المعسكر الشرقي. وإذا كانت معادية للأنظمة العربية غير القائمة على الديمقراطية والشورى، فإذا بها تتقرَّب إليها، ويستظل زعماؤها بظلها، وتأتيهم الفتاوى منها لكل ما يشكل عليهم فهمه من أمور الدنيا والدين. وكانت الحركة ضد الاستبداد وهيمنة الرأي الواحد، فإذا بها تقسم الأحزاب إلى حزبين: حزب الله وحزب الشيطان».
ضبابية فكرية
يطرح خليل علي حيدر سؤالاً كبيراً لايزال يمثل هاجساً مؤرقاً لقادة ومفكري التيار الديني الحركي: ما طبيعة وأهداف الحركة الدينية في هذه المرحلة؟ فـ «أحزاب الإخوان المسلمين تتحدث عن مناهج عديدة على المستوى الاستراتيجي.. فيها الكثير من الغموض الفكري والحسابات السياسية المستقبلية المتروكة للأقدار، وحزب التحرير يركز على أهمية التغيير الفكري في الأمة كمقدمة للتغيير السياسي.. ولاتزال الحركة السلفية تعمل من أجل بلورة خط ثالث في هذا المجال فيه تأكيد أكبر على الهوية العقائدية – الإيمانية، وتطلع أشد إلى الابتعاد عن المفاهيم السلبية التي تلصق بعالم السياسة والسلطان، وتركيز أقوى على التفسير الحرفي والظاهري للنصوص وعلى مظاهر الورع السني.. حتى في إيران، حيث التيار الديني في السلطة، لاتزال الأمور غير متبلورة: إن دولة يتبع سكانها مذهباً مختلفاً عن معظم الدول الإسلامية الأخرى وجدت نفسها فجأة كقائدة وقاعدة لحركة كبرى من دون وجود متسع من الوقت للانهماك في أي نقاش ديني أو مذهبي».
ويقر حيدر بأن ضبابية الفكر السياسي هي إحدى أهم المشاكل المزمنة التي يعانيها التيار الديني بكل أشكاله وأنواعه، ولذلك لا يتأخر – حيدر – في إبداء وجهة نظره المحددة، بأنه لو طلب أحد من قيادات الحركة الدينية في كل مكان تقديم إطار وملامح الدولة التي يرغبون في إقامتها على أطلال «الأنظمة الجاهلية.. لما رأيت منهم سوى الغموض في الطرح، والنقص في التفاصيل، والتضارب في الأقوال».
تساؤل آخر
ويطلق حيدر تساؤلاً مشروعاً آخر، ليس في محور الأنظمة أو الدولة الجاهلية، وإنما في ما يمارسه قيادات وأعلام ورموز، بل وحتى أعضاء الحركة الدينية من دور داخل هذه الأنظمة والدول فيقول: «.. إذا كانت مجتمعاتنا جاهلية – كما يزعم مفكرو التيار الديني.. فـلماذا لا يتركون مناصبهم ووجاهاتهم ويهاجرون في سبيل الله؟ ما لهم إذن وقد التصقوا بالأنظمة الجاهلية، في حين يتنعمون بمئات الألوف من الدنانير والريالات والدولارات التي تعود عليهم من النسخ المتوالية من كتبهم التي توزع هذه السموم على شبابنا وشاباتنا جيلاً بعد جيل؟».
الوصول إلى الدولة
هذا التساؤل المشروع الذي طرحه حيدر تقابله أيضاً محاولة جادة من قبله لاستشراف الوسيلة أو الوسائل التي يمكن من خلالها وصول الحركة الدينية للدولة المنشودة، وهي برأيه:
● دولة من الدول العربية «تنفتح» لسبب ما على التيار الديني وتعطيه المجال الواسع للدعاية والعمل والدعوة، ضمن حسابات مضمونة.
● دولة تقع تحت هيمنة «الجناح الليبرالي» من «الإخوان المسلمين» ممن هم على استعداد لتقديم الكثير من التنازلات الشكلية والمظهرية لإقامة الدين كحاجز في وجه «الأفكار المستوردة»، هذه الدولة ستكون في جوهرها تحت هيمنة مفاهيم الطبقة الوسطى وقيمها أخلاقياً، وتحت هيمنة العقلية الغربية سياسياً، والتوجه الرأسمالي اقتصادياً، مع حقنة دينية قوية في المجال الإعلامي والاجتماعي وبالذات الثقافي والتعليمي.
● دولة عربية أو إسلامية تقع إما بسبب استمرار التظاهرات أو الحروب الأهلية أو الانقلاب، تحت هيمنة التيار الشعبي ضمن الحركة الدينية.. وفي هذه التجربة ستسيل كميات كبيرة أو قليلة من الدماء، وتغرق الجماهير بالوعود والأحلام، ويكثر الخطباء والوعاظ، وتمتلئ الجدران والشوارع بالبيانات والكتيبات والمنشورات، ثم يبدأ تصارع الاجتهادات وإدراك ثقل المهام السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وضرورة التفريق بين النظرية والواقع والتكتيك والاستراتيجية، والحرية والتوجيه، والداخل والخارج.. وتبدأ مهام حماية النظام، ثم تتراجع الثورة متحولة إلى دولة، وتبدأ الدولة في الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه من النظام القديم ورجالاته ومؤسساته، ويبدأ تنظيم الجيش والاستخبارات من جديد.
ولم تكن هذه الرؤى ببعيدة عن الواقع العربي، حيث إنها التمسته بشكل قريب.
مخاطر الحركة الدينية
يلخص خليل علي حيدر تحت هذا العنوان في كتابه الموسوم «نقد الصحوة الدينية» النتاج الفكري للحركة الدينية العقائدية المعاصرة، فهذا التيار الديني الذي انتشر في كل مكان اليوم وفي أطراف عديدة لا يوجد فيه ما يشير إلى صحوة هذه الأمة ونهوضها من جديد، وهو ما تم تحديده في:
● إن هذا التيار في جوهره تيار قائم على الاستبداد في الرأي وتكفير الآخرين، وإذا نجح سياسياً فلا مفر من الديكتاتورية والهيمنة والاستبداد السافر أو المقنع.
● إن هذا التيار يهدد الوطن العربي بالتخريب الاقتصادي، فهو تارة مع الدولة وأخرى مع التجار، وتارة مع الاشتراكية وأخرى مع الاقتصاد الحُر، وتارة يدعو إلى مصادرة أراضي التجار، بحجة أن الملك لله، وأخرى يقدس الملكية الخاصة، حتى يكاد يجعلها ركناً سادساً للإسلام.
● إن هذا التيار ألد أعداء حرية المرأة الفكرية والسياسية والاجتماعية، ففي الفكر يعترف بنصف عقلها، وفي السياسة يحرمها من الحقوق، وفي التطور الاجتماعي يعزلها عن أي احتكاك حقيقي بالحياة.
● إن هذا التيار سيسبب أعظم فوضى في مجال السياسة الخارجية، فالاتحاد السوفييتي دولة كافرة، وأوروبا والولايات المتحدة صليبية، نصرانية حاقدة، أما بلدان العالم النامي، فمخيرون بين الإسلام أو الجزية أو السيف.
● إن هذا التيار يتهدد اليوم كل ما بنته العقلية العربية وعقول أبناء الدول الإسلامية الأخرى في قرن ونيف من الزمان، إنه يعد هذه الكتب والمنتوجات الفنية جوانب من الفكر واللهو الجاهلي الذي لابد من سحقه وإبادته في سبيل إقامة المجتمع الجديد.
● إن هذا التيار يتوعد العالم العربي بأعظم فوضى قانونية وجزائية، وأكبر هدر لحريات الدفاع عن النفس وحقوق المتهمين، وكل ذلك تحت شعار «القضاء الشرعي» الذي سيصبح سلاحاً رهيباً بيد القوى المسيطرة والنظام الانقلابي الجديد.
● إن هذا التيار يكاد لا ينشط في بلد حتى تلتهب فيه الطائفية، وينقسم المجتمع إلى جماعات وأحزاب متناحرة.
● إن هذا التيار الديني، بشكله الحالي، ومرتكزاته الحالية، وأهدافه الحالية عدو لنفسه، سيدمر روحانية الدين، وسيحمل النصوص ما لا تحتمل، وسيعرقل حرية الأحزاب الدينية الأخرى.
الخروج من المأزق
يؤكد خليل علي حيدر، أن الحركة الدينية والعقائدية تهدف إلى إقامة نظام سياسي بنهج «دكتاتوري»، فالدولة الإسلامية إن قامت اليوم «تحت تأثير الفكر العقائدي السائد، والتيارات الدينية المعروفة في باكستان ومصر وإندونيسيا والكويت وغيرها.. ستقام.. على آخر ما أنتجه الفكر السياسي في مجال إقامة الدولة الشمولية.. وبالذات في مجال الدولة البوليسية والتعبئة الثقافية والدعاية والتعليم وتنظيم الاستخبارات وتحطيم المعارضة وأشياء أخرى لا تخطر لنا على بال».
ويؤكد أيضاً أنها غير واضحة المعالم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فالدولة القائمة على الأسس الدينية – برأي حيدر – هي في جوهرها نظام يهدف إلى فرض هيمنة أفكارها على المجتمع إلى أن تزول كافة «مظاهر الجاهلية»، وتُقتلع من واقع الحياة، ومن المؤسسات الاجتماعية وفي نفوس الناس كافة.
ويضرب مثالاً واقعياً وعملياً «إننا نرى جميعاً مشاكل الثورة الإيرانية كيف بدأت وكيف تتعقد، ولو كان التيار الديني قد ترك منذ البداية لكافة الأحزاب الإيرانية حق دخول البرلمان وحق إصدار الصحف، وحق تكوين الجمعيات، وترك للجماهير الإيرانية تؤيد من تشاء وتسقط من تشاء، لكانت إيران اليوم من أكبر قلاع الحرية في الشرق الأوسط، ولاستطاعت بديمقراطيتها أن تؤثر في معظم الأنظمة حولها أعمق التأثير، فالحرية أخطر على الاستبداد من أي عقيدة أخرى».
ويحدد حيدر في هذا السياق طرق الخروج من هذا المأزق الذي أوقعت الحركة الدينية العقائدية نفسها فيه، من خلال تبني خطوات ثلاث:
1 – التخلي عن فكرة دولة الحزب الواحد.
2 – تقبُّل النظام البرلماني عن إخلاص ومبدأ.
3 – تقبُّل التعددية السياسية والفكرية.
جريدة الطليعة الكويتية